لاشك أن منزلة القلب في البدن منزلة عظيمة
إذ هو الملك وباقي الأعضاء جنوده يأتمرون بأمره
ويستعملها فيما شاء فهي تحت عبوديته وقهره
وتكتسب منه الاستقامة والزيغ وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله
فإن صلح القلب صلحت الجوارح وإن فسد القلب فسدت الجوارح
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ".
و قال الله تعالى (( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)).
بل القلب هو الميزان غداً يوم القيامة كما قال تعالى (( إلا من أتى الله بقلب سليم )).
" تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا
فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء
وأي قلب لم يشربها نكتت فيه نكتة بيضاء
حتى تصير القلوب على قلبين :
قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً،
لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه
وقلب أبيض فلا تضره فتنة مادامت السموات والأرض ".
يعرف القلب السليم فيحرص أن يكون قلبه على شاكلته صحيحا سليما
وأن يعرف القلب المريض وصفاته حتى يحذر من أن يكون قلبه كذلك
ثم إن قدر أنه كذلك يسعى في إصلاحه ومداواته بالأدوية الشرعية الربانية .
كماله في حصول ذلك الفعل منه ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له
حتى لا يصدر منه أو يصدر مع نوع من الاضطراب
يتعذر عليه ما خُلق له من معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والإنابة إليه وإيثار ذلك على كل شهوة
ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه والأنس به فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين
وكل من عرف الله أحبه وأخلص العبادة له ولا بد ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات
كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب وتعوضت بمحبة غيره
وعلامة ذلك :
أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة
فهو يؤثر بقاء الداء على مشقة الدواء !!
لضعف علمه وبصيرته وصبره
كمن دخل في طريق مخوف مُفْضٍ إلى غاية الأمن
وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن
فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه
ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة
وجعل يقول أين ذهب الناس فلي بهم أسوة.
فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق
ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول
الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب
عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة
وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار
ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها
جاء إلى هذه الدار غريبا يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه
كما قال عليه السلام لعبد الله بن عمر : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " وعد نفسك من أهل القبور.
إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل منهما بنون
فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا
فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل
حتى يصير من أهلها وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها حتى يصير من أهلها
ويخبت إليه ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه
الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به
فبه يطمئن وإليه يسكن وإليه يأوي وبه يفرح
وعليه يتوكل وبه يثق
وأياه يرجو وله يخاف
فذكره قوته وغذاؤه ومحبته والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره
والالتفاف إلى غيره والتعلق بسواه داؤه والرجوع اليه دواؤه
وانسدت تلك الفاقة
فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدا
وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه
وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده
فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى الهه ومعبوده
فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها
ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق
ولأجله خلقت الجنة والنار وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب
ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة
قيل وما أطيب ما فيها ؟؟
قال : محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته
حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت
والعيش الهني في الحياة مع الله تعالى لا غير
ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت
لأن الفوت انقطاع عن الحق والموت انقطاع عن الخلق فكم بين الانقطاعين
من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين
ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات
من سُرَّ بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته
ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه
أن لا يفتر عن ذكر ربه ولا يسأم من خدمته
ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه ويذكره به ويذاكره بهذا الأمر
أنه إذا فاته ورده وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده
أنه يشتاق إلى الخدمة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشراب
أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا
واشتد عليه خروجه منها ووجد فيها راحته ونعيمه وقرت عينه وسرور قلبه
أن يكون همه واحدا وأن يكون في الله
أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشد الناس شحا بماله
أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل
فيحرص على الإخلاص فيه والنصحية والمتابعة والإحسان
ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه وتقصيره في حق الله
الذي همه كله في الله وحبه كله له وقصده له وبدنه له وأعماله له ونومه له ويقظته له
وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث
وأفكاره تحوم على مراضيه
ومحابه الخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له
قرة عينه به وطمأنينته وسكونه إليه فهو كلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره تلا عليها
فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية
فتصير العبودية صفة له وذوقا لا تكلفا
فيأتي بها توددا وتحببا وتقربا كما يأتي المحب المقيم في محبة محبوبه بخدمته وقضاء أشغاله
إني سامع مطيع ممتثل ولك علي المنة في ذلك والحمد فيه عائد إليك
وأنت ربي العزيز الرحيم لا صبر لي إن لم تصبرني ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوني
لا ملجأ لي منك إلا إليك ولا مستعان لي إلا بك ولا انصراف لي عن بابك ولا مذهب لي عنك
فإن أصابه بما يكره , قال : رحمة أهديت إلي ودواء نافع من طبيب مشفق
وإن صرف عنه ما يحب , قال : شرا صرف عني
وانفتح له منه باب يدخل منه عليه كما قيل
ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر
واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه
ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب إليه
واختارت على ما سواه وآثرت ما لديه ".
ترجو رحمته وتخاف عذابه إنه هو الرحمن الرحيم.
و أعتذر عن الإطالة ..
و لا تنسونا من الدعاء ..
جزاكم الله خيرا
2 حط تعليقك:
جزاك الله كل خير..الله يسعدك في الدنيا والآخرة..
صراحه مدونتك من أروع المدونات..وموضوعك اللي نقلته جداً رائع ومفيد الله يجزاك الجنة يارب..
لم اشعر بضيق..مواضيعك تقربنا من الله ..الله يوفقك وييسر امرك يارب
جزانا و إياكم يا غير معرف :) ..
أسعدنا الله و إياكم يا رب ..
و جزانا الله الجنة و إياكم ..
مش عارف .. دعاء حضرتك حلو جدا ,
ربنا يستجيب لنا و إياكم إن شاء الله ..
و لا تنسنا من الدعاء برضه , لكن في صلاتك إن شاء الله ..
لا تنس الله يكرمك ..
جزاك الله خيرا ..
إرسال تعليق